الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأنشد الزجاج: {قُلْ} إفحامًا لهم وتوبيخًا {أَفَلاَ تَتَّقُونَ} أي أتعلمون ذلك ولا تتقون أنفسكم عقابه على ترك العمل بموجب العلم حيث تكفرون به تعالى وتنكرون ما أخبر به من البعث وتثبتون له سبحانه شريكًا.{قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلّ شَيْء} مما ذكر ومما لم يذكر؛ وصيغة الملكوت للمبالغة في الملك فالمراد به الملك الشامل الظاهر، وقيل: المالكية والمدبرية، وقيل: الخزائن {وَهُوَ يُجْيِرُ} أي يمنع من يشاء ممن يشاء {وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ} ولا يمنع أحد منه جل وعلا أحدًا، وتعدية الفعل بعلى لتضمينه معنى النصرة أو الاستعلاء {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} تكرير لاستهانتهم وتجهيلهم على ما مر.{سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ملكوت كل شيء والوصف بأنه الذي يجير ولا يجار عليه {قُلْ} تهجينًا لهم وتقريعًا {فأنى تُسْحَرُونَ} كيف أو من أين تخدعون وتصرفون عن الرشد مع علمكم به إلى ما أنتم عليه من البغي فإن من لا يكون مسحورًا مختل العقل لا يكون كذلك، وهذه الآيات الثلاث أعني {قُل لّمَنِ} [المؤمنون: 84] إلى هنا على ما قرر في الكشف تقرير للسابق وتمهيد للاحق وقد روعي في السؤال فيها قضية الترقي فسئل عمن له الأرض ومن فيها، وقيل: {مِنْ} تغليبًا للعقلاء ولأنه يلزم أن يكون له غيرهم من طريق الأولى ثم سئل عمن له السموات والعرش العظيم والأرض بالنسبة إليه كلا شيء ثم سئل عمن بيده ملكوت كل شيء فأتى بأعم العام وكلمة الإحاطة وأوثر الملكوت وهو الملك الواسع، وقيل: {بِيَدِهِ} [المؤمنون: 88] تصويرًا وتخييلًا وكذلك روعي هذه النكتة في الفواصل فعيروا أولًا بعدم التذكر فإن أيسر النظر يكفي في انحلال عقدهم ثم بعدم الاتقاء وفيه وعيد ثم بالتعجب من خعد عقولهم فتخيل الباطل حقًا والحق باطلًا وأنى لها التذكر والخوف.{بَلْ أتيناهم بالحق} إضراب عن قولهم {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} [المؤمنون: 83] والمراد بالحق الوعد بالبعث وقيل: ما يعمه والتوحيد ويدل على ذلك السياق.وقرىء {بَلِ} بتاء المتكلم.وقرأ ابن أبي إسحاق بتاء الخطاب {عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون} في قولهم: {إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين} [المؤمنون: 83] أو في ذلك وقولهم بما ينافي التوحيد. اهـ.
وقوله تعالى: {فأنى تُسْحَرُونَ} أي كيف تخدعون، وتصرفون عن توحيد ربكم، وطاعته مع ظهور براهينه القاطعة وأدلته الساطعة، وقيل: {فأنى تُسْحَرُونَ} أي كيف يخيل إليكم، أن تشركوا به ما لا يضر، ولا ينفع، ولا يغني عنكم شيئًا بناء على أن السحر هو التخييل.وقد قدمنا الكلام على السحر مستوفى في سورة طه في الكلام على قوله تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69] والظاهر أن معنى تسحرون هنا: تخدعون بالشبه الباطلة فيذهب بعقولكم، عن الحق كما يفعل بالمسحور. والله تعالى أعلم.وقوله: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} قرأه حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي بتخفيف الذال بحذف إحدى التاءين، والباقون بالتشديد لإدغام التاءين في الذال.وقوله تعالى: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} جاء في هذه الآيات ثلاث مرات.الأول: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ}. وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة، لأنها جواب المجرور بلام الجر، وقوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ} فجواب لمن الأرض، هو أن تقول: لله، وأما الثاني الذي هو {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} والثالث: الذي هو قوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ} فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من لفظ الجلالة.والمعنى: على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه، لأن الظاهر في جواب من رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، أن تقول: الله بالرفع أي رب ما ذكر هو الله، وكذلك جواب قوله: {مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} فيه معنى من هو مالك السموات والأرض، والعرش، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال: لله: أي كل ذلك ملك لله، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر: لأن قوله: من رب المزالف فيه معنى من هو مالكها، فحسن الجواب باللام: أي هي لخالد. والمزالف: جمع مزلفة كمرحلة. قال في القاموس: هي كل قرية تكون بين البر والريف، وجمعها مزالف. اهـ.
ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت ولعلهما أخذاه من تفسير الزجاج ولم يعزواه إلى قائل ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية.وأقول: إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا: رب السماوات السبع اللَّهُ، لأنهم أثبتوا مع الله أربابًا في السماوات إذ عبدوا الملائكة فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تورك عليهم، ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله تعالى.وقرأه أبو عمرو ويعقوب {سيقولون الله} بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعًا على أنه خبر مَن في قوله: {من رب السموات} والمعنى واحد.ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط {إن كنتم تعلمون} [المؤمنون: 84] ونحوه كما جاء في سابقه لأن انفراد الله تعالى بالربوية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية.وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكر ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام.وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلاّ الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وأن يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.وحذف مفعول {تتقون} لتنزيل الفعل منزلة القاصر لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)}.قد عرفت آنفًا نكتة تكرير القول.والملكوت: مبالغة في الملك بضم الميم.فالملكوت: الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده {كل شيء}.واليد: القدرة.ومعنى {يجير} يغيث ويمنع من يشاء من الأذى.ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجارَ بأذى فمعنى {لا يجار عليه} لا يستطيع أحد أن يمنع أحدًا من عقابه.فيفيد معنى العزة التامة.وبني فعل {يجار عليه} للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار.ولما كان تصرف الله هذا خفيًا يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عُقب الاستفهام بقوله: {إن كنتم تعلمون} كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثًا لهم على علمه والاهتداء إليه.ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل {سيقولون لله}.وقرأ الجمهور {سيقولون لله} بلام الجر داخلة على اسم الجلالة مثل سالفه.وقرأه أبو عمرو ويعقوب بدون لام وقد علمت ذلك في نظيره السابق. وأنَّى يجوز أن تكون بمعنى من أين كما تقدم في سورة آل عمران (37) {قال يا مريم أنى لك هذا} والاستفهام تعجيبي.والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعًا.والمعنى: فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل.فالمراد بالسحر ترويج أئمة الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين.{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)}.إضراب لإبطال أن يكونوا مسحورين، أي بل ليس الأمر كما خيل إليهم.فالذي أتيناهم به الحق يعني القرآن.والباء للتعدية كما يقال: ذهب به أي أذهبه.وهذا كقوله آنفًا {بل أتيناهم بذكرهم} [المؤمنون: 71].والعدول عن الخطاب من قوله: {فأنى تسحرون} [المؤمنون: 89] إلى الغيبة التفات لأنهم الموجه إليهم الكلام في هذه الجملة.والحق هنا: الصدق فلذلك قوبل بنسبتهم إلى الكذب فيما رموا به القرءان من قولهم {إن هذا إلا أساطير الأولين} [المؤمنون: 83] وفي مقابلة الحق بـ {كاذبون} محسن الطباق.وتأكيد نسبتهم إلى الكذب بـ إن واللام لتحقيق الخبر.وقد سُلكت في ترتيب هذه الأدلة طريقة الترقي؛ فابتدىء بالسؤال عن مالك الأرض ومن فيها لأنها أقرب العوالم لإدراك المخاطبين، ثم ارتقي إلى الاستدلال بربوبية السماوات والعرش، ثم ارتقي إلى ما هو أعم وأشمل وهو تصرفه المطلق في الأشياء كلها ولذلك اجتلبت فيه أداة العموم وهي كل. اهـ.
|